3‏/6‏/2009

في الإسكندرية / قصة

1

خرج من قلب قريته التى هى فى أقصى الصعيد الجنوبى من مصر .. تاركًا الشمس الحارقة والجو القاسى إلى الضوء الخفيف والجو اللطيف .. واللون الأصفر لون الخريف الدائم والرمال المنتشرة فى كل مكان، إلى الألوان الباهية والأضواء اللامعة .. وأصناف الطعام المحدودة، إلى الأصناف اللامحدودة والأنواع الغير معروفة .. والنساء الملثمة ذات الوجوه الكالحة والملابس القاتمة، إلى النساء العارية ذات الضحكات العالية والملابس الزاهية .. ترك الكآبة الموجودة فى قريته التى هى فى آخر مصر، إلى الإسكندرية المدينة الجميلة التى هى فى أول مصر ..

كانت تلك المقارنة هى آخر ما دار فى باله وهو يجلس أمام عتبة داره، يرشف من كوب الشاى، ويفكر فى الأسكندرية ..

كما كانت تلك المقارنة هى التى دفعته إلى أن يتخذ قراره للسفر فى تلك اللحظة، فقام ودخل الدار، ليحصل على بُجرة ملابسه وبعض النقود التى كان يدخرها ..

استقل المركب النيلية التى سوف يصل بها إلى أسيوط، حيث أول خطوة فى سكة سفره إلى الإسكندرية، التى كانت مسيطرة على كل تفكيره، فكان لا يفكر إلا فيها أثناء يقظته، ولا يحلم إلا بها وقت منامه ..

كان يعد لذلك اليوم ويخطط لسكة سفره منذ أن جاء ذلك (الخواجة) فى العام الماضى مفتشًا عن الآثار القديمة المدفونة فى أرض قريتنا، وكانت تصحبه تلك المرأة (الدريسة) التى عرفنا أنها من الإسكندرية، كانت كما لو كانت حورية جاءت من النعيم أو خرجت من إحدى شواطئ تلك المدينة الجميلة ..

سمعته مرة يهمس لأحد المقربين إليه ويقول :

- لم أرى مثل تلك المرأة من قبل، لكن أقسم أن لا يفارقنى أمثالها بعد ..

ذهب للعمل فى الحفر والنبش مع (الخواجة) ليكون قريبًا منها، تجرأ مرة وكلمها، فتجاوبت معه بكل بساطة، سألها عن الأسكندرية، فقالت :

- هى مدينة الألوان، كل الألوان .. إن الليل لا يأتى إليها، ولا أحد ينام فيها ..

أضاف (الخواجة) الذى كان يشهد الحوار :

- هى مدينة الأحلام، فبالإضافة إلى الحضارات التى غطتها، والعراقة التى غمرتها، إلا أن أجمل شئ فيها هو نساءها، النساء فيها متعددة المذاقات، لا تجد امرأة فيها تشبه الأخرى، كل منهن لها مذاقها الخاص .. عليك أن تجرب بنفسك حتى تفهم مقصدى ..

سأجرب .. هكذا كان يفكر ويسترجع كل ما كان يدور من كلام حول الإسكندرية، وهو فى قلب المركب، وما قطع حبل أفكاره إلا صوت المراكبى، يقول :

- وصلنا ..

مر بالديرالكبير القديم الذى كانت كنيسته مقصد معظم الركاب، كانوا يحملون أطعمة وقرابين بيد أنه كان يوم عيد .. لكنه كان لايهتم بالدين، فلم يشارك الركاب فى أحاديثهم الدينية التى طالت طوال الرحلة، ولم يهتم بأن يعرف أى عيد أو مولد هذا الذى يسعون إليه، ولم يفكر حتى أن يرسم الصليب فى الهواء ..

أكمل طريقه إلى الأسكندرية ..

وهنا انتهت كل المعلومات التى أعرفها عنه، لكنى دائما كنت أصلى من أجله ..

2

فى الإسكندرية ..

أخيرًا ..

ما أجمل هذه المدينة، أى البلدان أجمل منها !! كما كانت مرسومة فى خيالى، موصوفة بلسان (الخواجة) و(الدريسة) وأكثر ..

كنا فى الشتاء، وكان الوقت فجرًا، وكان الجو ربيعيًا صحوًا، وكانت الناس مازالت نائمة، ربما لأنها ذهبت إلى فراشها منذ قليل ..

كان أول من استقبلنى فى تلك المدينة الجميلة، هو بحرها الرائق، فقررت أن أكون بضيافته حتى تطلع شمس الظهيرة، كان الشاطئ خاوٍ من الناس، وكان الجو باردًا، وكنت مشتاق إلى البحر .. خلعت ملابسى وجعلتها على تلك الصخرة بقرب الشاطئ، كان جسمى دافئًا مما زاد من برودة الماء التى قد بللت رجلى فيها، ومسحت وجهى منها، حتى بدأت الشمس تشرق قليلا، وينتشر الضوء الخفيف الدافئ الذى كان يجعل المياه متلألأة كزجاج صاف .. ارتميت بأحضان البحر، كما كنت أفعل أيام الطفولة فى ماء النيل الذى يمر بقريتنا .. لكن ما أمتع هذا البحر، إن العوم فيه أسهل بكثير من العوم فى النيل، فالبحر ماءه خفيف، يحملنى ولا يجذبنى، ماءه صاف، لا طين فيه ولا لزوجة .. كل شئ فى البحر جميل وممتع .. كان الرزاز يداعبنى، وكانت رائحته، ورقته، وصوت أمواجه، قد ايقظت بداخلى الرجل المفعم بحرارة آلاف السنين، فكانت تنبعث من داخلى نبضات دفئ عارمة بددت برودة القلب وارتعاشة الأطراف .. خبطتنى الأمواج عدة مرات، فدغدغتنى، وأججت كل المشاعر الذابلة المكبوتة داخلى، التى كنت نسيتها فكادت تموت، تمنيت لو وجدت امرأة إسكندرانية تهبنى نفسها فى تلك اللحظات النادرة، لكنى لم أجد، فتركت نفسى للماء بأن استلقيت على ظهرى ومددت ذراعىّ فوق صفحته فحملنى سريره، فكانت الأمواج تأرجحنى، وكانت أشعة الشمس الخفيفة تداعب عينى، وكانت أصوات أسراب طيور النورس تطربنى .. ونظرت بطرف عينى إلى أنحاء جسمى العارى فرأيت أنه حسن .. أغمضت عينى ورحت فى سكرة عميقة .. فرأيت جوارى فاتنة إسكندرانية حسناء تدعك ظهرى ورقبتى بأصابعها البيضاء وراحتى يديها الناعمة الطرية، وقد أغمرتنى بعدة لثمات وقبلات، فكدت أذوب فى ماء البحر، وانتفض جسدى لما خرج منى ماء ذاب فعلا فى رحم ذلك البحر الهائل العظيم .. لكن ما هذه الشمس الحارقة ..

ياااه ..

إنها شمس الظهيرة ..

كم طالت بى تلك السكرة .. لكن هل الناس فى الإسكندرية ينامون إلى الظهيرة، لم أسمع أصوات آدميه كل ما يتردد فى أذنى هو صوت الماء وصوت الهواء ..

قمت من استلقائى على صفحة الماء، أو من أضجاعى على سريره، ناويًا أن أصطاد عاهرة إسكندرانية، أعيش معها باقى يومى هذا ..

أين أنت يا أمى لترى سعدى وهنائى ..؟

أين الشاطئ ..؟

أين الرمال ..؟

بَعَدَ الشاطئ عن نظرى، وخلت الرمال من تحت قدمى، إنى أغرق ..

غريق ..

غريق ..

لا أحد يسمعنى، والماء يجذبنى بشدة وعنف، لا أستطيع العوم، تخدلت ذراعاتى فالماء أقوى منى، بحر الإسكندرية خائن ونساءها مخادعات، عاهرات، ملعونات ..

أم انى أنا الخاطئ ..؟

ماذا أفعل، أتكون نهايتى هكذا غريقًا، وحيدًا، بعيدًا عن أهلى ..؟!

أنقذنى يا يسوع، كن معى الآن وسأنذر لك كل حياتى .. نعم .. سأذهب إلى الدير، وأطلب الرهبنه، ستكون حياتى القادمة صلاة وشكر لك يا ربى لكن انقذنى ..

هه..

آآه ..

أنا الآن على الشاطئ، أرسم الصليب فى الهواء، وآخذ من الرمال وأضع على رأسى بذراعىّ المخدلتين التى يمزقهما الألم جراء التجديف المتواصل ودفع الماء القاسى للوراء، أعصابى كلها مفكوكة من هول الموقف وقسوة التجربة .. التجربة التى كادت أن تنهى حياتنى، أين بُجرة ملابسى، سوف أعود من حيث آتيت، سوف أوفى نذرى، سوف أهبط إلى الدير الذى سوف أقضى به بقية حياتـ ـ

لا أصدق، أنها تنادينى، هى التى تنادينى، ما أجمل طلتها، آه من عينيها الغجريتين الحارقتين، آه من فمها الذى يستحق أن تمضغه شفتاى، آه من صدرها المكشوف ونهدها المنتصب الرجراج، آه من ....

سوف أقضى معها لية لن أنساها ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق