23‏/12‏/2009

يوتوبيا.. رائعة أحمد خالد توفيق


وفى احدى ليالى شتاء 2008، جاءنى (د. أحمد) فى منامى وهو يبكى إلىّ ما فعلوه بـ(يوتوبيا) ويهدينى نسخة منها، ويوصينى بقراءتها لأنه متشوق لسماع رأيي فيها – هكذا كان الحلم –

والحق الحق أقول لكم:

كانت علاقتى بكتابات (د. أحمد) قد انتهت منذ زمن، زمن (المؤسسة العربية) وروايات الجيت التى أصبحت أرى فيها المط الممل و الاستخفاف بعقلى كـ يافع، ربما كنت أحبها أيام الطفولة والطفولة الثانية..

ذهبت إلى صديقى (أحمد الأبيض) لأشترى بعض الكتب، فاشتريت، وطلبت بعض الكتب الغير موجودة على رفوفه، فأمليته عناوينها.. وقبل الوداع والدعوات قال لى:

- يا بنى انت ليه مش عايز تاخد (يوتوبيا)

كنت قد مللت عرضة المتكرر فى أن آخذ (يوتوبيا)، وتذكرت الحلم أيضاً..

أخذت (يوتوبيا)

قرأت الصفحات الأولى من (يوتوبيا)

ركنت (يوتوبيا) على الرف

.....

أصابنى الملل كثيراً فى هذا العام 2009

وفى احدى نوبات الملل، فتحت محرك البحث العزيز ((Google وبحث عن (سر الملل) فخرج لى ضمن النتائج وعلى مدونة لمجهول موضوعاً مطولاً يسفه من (يوتويا)، (يوتوبيا) المملة، (يوتوبيا) التى تسيئ لمصر والمصريين، (يوتوبيا) التى تحرض على الالحاد والفجور..

تذكرت (يوتوبيا)، قرأت (يوتوبيا)، ندمت على تخلفى عن قراءتها كل هذه الفترة، قراتها ثانية، قرأتها ثالثة، أدمنها..

.....

تقرا (يوتوبيا) فيصيبك الزهول، وتتسع حدقات عينك، وربما لا تستطيع ان تتحكم فى اشداق فاهك، يختلط عليك الواقع بالخيال، فلا تعرف اين انت، وتجهل مهمة حياتك..

تجد نفسك مع لغة رهيبة يستخدمها (د. احمد) ليقول لك، لقد انتهى زمن روايات الجيب واليك الخيال الواقعى – هذا النوع أحبه –

.....

علاء وجرمينال

تتعاطف مع (اليوتوباويين) وتلعن جنونهم وتخنقك أفعالهم..

جابر وصفيه

تتعاطف مع (الأغيار) وتلعن جبنهم ويخنقك هوانهم..

.....

(يوتوبيا) هى الزل والمهانة..

(يوتوبيا) هى الثورة التى لم تكون ولابد ان تكون..



بقلمى...
© All rights reserved

1‏/8‏/2009

بلا رفيق / من أشعارى


آه.. أيها الإنسان النفيس
يا صاحب الحظ التعيس
يا من ملكت الشيى الخسيس
تهجر فراشك رفيقتك الرخيصة
وتبقى عاجزاً بلا حيلة
تمضى الليالى المظلمة
تمضى الليالى الطويلة
وتبقى وحيداً عليلا
تقلب الذكريات السقيمة
ما أطيبك وأحن قلبك
تملك أن تؤذى الجميع
لكن قلبك يملأه الربيع
تملك أن تدمر وتحرق
وتملك أن تجعل النيل يُغرق
لكنك تحفظ العهود
رغم خيانتها للوعود
ما أطيب قلبك الرقيق
حين تبقى وحيداً بلا رفيق
تسير فى دروب الليل
وحدك بلا رفيق..

بقلمى...
© All rights reserved

11‏/7‏/2009

أنين عاشقة / من أشعارى


حفى خفى يسير كالمطر
يقتلنى من يمانع فى حبى له
اصمد..
كن معى لا تجعلنى وحيدة
لا تدعنى بين أهلى غريبة
أعيش بين الناس لكنى بعيدة
أهيم بين قبور أحياء البشر
ميتة كنجمة باهتة
فى الأفق الحزين بعيدة
شاردة بذهنى فى الفضاء
حزنى فى القلب بلون المساء
دمعى فى العين كمطر الشتاء
ألا تشعر بشجنى بلهيبى
ألا تشعر بقلبى بحنينى
أبكى مر البكاء
وسيمضى الشتاء بعد الشتاء
وأبقى على حبك شريدة
لأنى أعرف مدى حبك
أموت من أجلك
وأنا باقية على عهدك
عزائى ذكرى قلبك وحبك
فأنت بعيد وأنا بعيدة
لكنا متحابان عاشقان
رغم ابتعادنا متعانقان
سنبقى رغم الظلام
رغم البشر رغم عناد القدر
سنكون أغنية سنكون أسطورة
يغنيها الأحبة فى السفر
يغنيها الأحبة تحت المطر
بقلمى...
© All rights reserved

ترنيمة الملك والأتباع / من أشعارى


الملك..
جاء اليوم أيها الأتباع
لا شيئ فى دولتى يشترى أو يباع
تفرغوا جميعاً للمتاع
وأتركوا مصيركم لى أنا القمّاع

الأتباع..
يا ملك دولتنا العظيم
نغنى لك اليوم بصوت رخيم
فاليوم يومك
..وغداً..
لك لا يستديم

الملك..
اليوم قد ملكنا الإنسان
وسنجرب فيه عمل الجان
هيا يا صناع الشر
لنلهو جميعاً بالبشر
انزعوا كل الخير واقطعوا الشجر
كونوا زهوراً يانعة
واجعلوهم تراباً وحجر

الأتباع..
تسخر منا صباح مساء
ونتابع خطوك فى دهاء
هذا يومنا يا ملك الصيف
قد سقط فى يدينا أول الطيف

الملك..
لتكن الحياة مهزلة
يحكيها القدر والبشر
أنا الملك أنا الملك آمر فأطيع
ما شئت أن يبقى يبقى
وما شئت أن يذهب يضيع

الأتباع..
كن كما شئت فلا يدوم حال
أنت الذى كنت تغير الأحوال
اليوم عاد إلينا سلطاننا والمال
اليوم لا تسلبنا حقوقنا..
ولا تصنع ما كنت تصنع فى ابتزال
بقلمى...
© All rights reserved

ترانيم صيفية / من أشعارى


قد أتى الصيف أيها الإنسان
تجمعوا صغاراً وكباراً ومن كل آن
غنوا جميعاً أجمل الألحان
انتشروا فى الأرض فى كل مكان
اجمعوا الندى اجمعوا الطيف
وانتظروا أول انسان ينزل بنا ضيف
قولوا له ولمن هناك وهنا
قد جاء الصيف يوم المنى
بقلمى...
© All rights reserved

3‏/6‏/2009

في الإسكندرية / قصة

1

خرج من قلب قريته التى هى فى أقصى الصعيد الجنوبى من مصر .. تاركًا الشمس الحارقة والجو القاسى إلى الضوء الخفيف والجو اللطيف .. واللون الأصفر لون الخريف الدائم والرمال المنتشرة فى كل مكان، إلى الألوان الباهية والأضواء اللامعة .. وأصناف الطعام المحدودة، إلى الأصناف اللامحدودة والأنواع الغير معروفة .. والنساء الملثمة ذات الوجوه الكالحة والملابس القاتمة، إلى النساء العارية ذات الضحكات العالية والملابس الزاهية .. ترك الكآبة الموجودة فى قريته التى هى فى آخر مصر، إلى الإسكندرية المدينة الجميلة التى هى فى أول مصر ..

كانت تلك المقارنة هى آخر ما دار فى باله وهو يجلس أمام عتبة داره، يرشف من كوب الشاى، ويفكر فى الأسكندرية ..

كما كانت تلك المقارنة هى التى دفعته إلى أن يتخذ قراره للسفر فى تلك اللحظة، فقام ودخل الدار، ليحصل على بُجرة ملابسه وبعض النقود التى كان يدخرها ..

استقل المركب النيلية التى سوف يصل بها إلى أسيوط، حيث أول خطوة فى سكة سفره إلى الإسكندرية، التى كانت مسيطرة على كل تفكيره، فكان لا يفكر إلا فيها أثناء يقظته، ولا يحلم إلا بها وقت منامه ..

كان يعد لذلك اليوم ويخطط لسكة سفره منذ أن جاء ذلك (الخواجة) فى العام الماضى مفتشًا عن الآثار القديمة المدفونة فى أرض قريتنا، وكانت تصحبه تلك المرأة (الدريسة) التى عرفنا أنها من الإسكندرية، كانت كما لو كانت حورية جاءت من النعيم أو خرجت من إحدى شواطئ تلك المدينة الجميلة ..

سمعته مرة يهمس لأحد المقربين إليه ويقول :

- لم أرى مثل تلك المرأة من قبل، لكن أقسم أن لا يفارقنى أمثالها بعد ..

ذهب للعمل فى الحفر والنبش مع (الخواجة) ليكون قريبًا منها، تجرأ مرة وكلمها، فتجاوبت معه بكل بساطة، سألها عن الأسكندرية، فقالت :

- هى مدينة الألوان، كل الألوان .. إن الليل لا يأتى إليها، ولا أحد ينام فيها ..

أضاف (الخواجة) الذى كان يشهد الحوار :

- هى مدينة الأحلام، فبالإضافة إلى الحضارات التى غطتها، والعراقة التى غمرتها، إلا أن أجمل شئ فيها هو نساءها، النساء فيها متعددة المذاقات، لا تجد امرأة فيها تشبه الأخرى، كل منهن لها مذاقها الخاص .. عليك أن تجرب بنفسك حتى تفهم مقصدى ..

سأجرب .. هكذا كان يفكر ويسترجع كل ما كان يدور من كلام حول الإسكندرية، وهو فى قلب المركب، وما قطع حبل أفكاره إلا صوت المراكبى، يقول :

- وصلنا ..

مر بالديرالكبير القديم الذى كانت كنيسته مقصد معظم الركاب، كانوا يحملون أطعمة وقرابين بيد أنه كان يوم عيد .. لكنه كان لايهتم بالدين، فلم يشارك الركاب فى أحاديثهم الدينية التى طالت طوال الرحلة، ولم يهتم بأن يعرف أى عيد أو مولد هذا الذى يسعون إليه، ولم يفكر حتى أن يرسم الصليب فى الهواء ..

أكمل طريقه إلى الأسكندرية ..

وهنا انتهت كل المعلومات التى أعرفها عنه، لكنى دائما كنت أصلى من أجله ..

2

فى الإسكندرية ..

أخيرًا ..

ما أجمل هذه المدينة، أى البلدان أجمل منها !! كما كانت مرسومة فى خيالى، موصوفة بلسان (الخواجة) و(الدريسة) وأكثر ..

كنا فى الشتاء، وكان الوقت فجرًا، وكان الجو ربيعيًا صحوًا، وكانت الناس مازالت نائمة، ربما لأنها ذهبت إلى فراشها منذ قليل ..

كان أول من استقبلنى فى تلك المدينة الجميلة، هو بحرها الرائق، فقررت أن أكون بضيافته حتى تطلع شمس الظهيرة، كان الشاطئ خاوٍ من الناس، وكان الجو باردًا، وكنت مشتاق إلى البحر .. خلعت ملابسى وجعلتها على تلك الصخرة بقرب الشاطئ، كان جسمى دافئًا مما زاد من برودة الماء التى قد بللت رجلى فيها، ومسحت وجهى منها، حتى بدأت الشمس تشرق قليلا، وينتشر الضوء الخفيف الدافئ الذى كان يجعل المياه متلألأة كزجاج صاف .. ارتميت بأحضان البحر، كما كنت أفعل أيام الطفولة فى ماء النيل الذى يمر بقريتنا .. لكن ما أمتع هذا البحر، إن العوم فيه أسهل بكثير من العوم فى النيل، فالبحر ماءه خفيف، يحملنى ولا يجذبنى، ماءه صاف، لا طين فيه ولا لزوجة .. كل شئ فى البحر جميل وممتع .. كان الرزاز يداعبنى، وكانت رائحته، ورقته، وصوت أمواجه، قد ايقظت بداخلى الرجل المفعم بحرارة آلاف السنين، فكانت تنبعث من داخلى نبضات دفئ عارمة بددت برودة القلب وارتعاشة الأطراف .. خبطتنى الأمواج عدة مرات، فدغدغتنى، وأججت كل المشاعر الذابلة المكبوتة داخلى، التى كنت نسيتها فكادت تموت، تمنيت لو وجدت امرأة إسكندرانية تهبنى نفسها فى تلك اللحظات النادرة، لكنى لم أجد، فتركت نفسى للماء بأن استلقيت على ظهرى ومددت ذراعىّ فوق صفحته فحملنى سريره، فكانت الأمواج تأرجحنى، وكانت أشعة الشمس الخفيفة تداعب عينى، وكانت أصوات أسراب طيور النورس تطربنى .. ونظرت بطرف عينى إلى أنحاء جسمى العارى فرأيت أنه حسن .. أغمضت عينى ورحت فى سكرة عميقة .. فرأيت جوارى فاتنة إسكندرانية حسناء تدعك ظهرى ورقبتى بأصابعها البيضاء وراحتى يديها الناعمة الطرية، وقد أغمرتنى بعدة لثمات وقبلات، فكدت أذوب فى ماء البحر، وانتفض جسدى لما خرج منى ماء ذاب فعلا فى رحم ذلك البحر الهائل العظيم .. لكن ما هذه الشمس الحارقة ..

ياااه ..

إنها شمس الظهيرة ..

كم طالت بى تلك السكرة .. لكن هل الناس فى الإسكندرية ينامون إلى الظهيرة، لم أسمع أصوات آدميه كل ما يتردد فى أذنى هو صوت الماء وصوت الهواء ..

قمت من استلقائى على صفحة الماء، أو من أضجاعى على سريره، ناويًا أن أصطاد عاهرة إسكندرانية، أعيش معها باقى يومى هذا ..

أين أنت يا أمى لترى سعدى وهنائى ..؟

أين الشاطئ ..؟

أين الرمال ..؟

بَعَدَ الشاطئ عن نظرى، وخلت الرمال من تحت قدمى، إنى أغرق ..

غريق ..

غريق ..

لا أحد يسمعنى، والماء يجذبنى بشدة وعنف، لا أستطيع العوم، تخدلت ذراعاتى فالماء أقوى منى، بحر الإسكندرية خائن ونساءها مخادعات، عاهرات، ملعونات ..

أم انى أنا الخاطئ ..؟

ماذا أفعل، أتكون نهايتى هكذا غريقًا، وحيدًا، بعيدًا عن أهلى ..؟!

أنقذنى يا يسوع، كن معى الآن وسأنذر لك كل حياتى .. نعم .. سأذهب إلى الدير، وأطلب الرهبنه، ستكون حياتى القادمة صلاة وشكر لك يا ربى لكن انقذنى ..

هه..

آآه ..

أنا الآن على الشاطئ، أرسم الصليب فى الهواء، وآخذ من الرمال وأضع على رأسى بذراعىّ المخدلتين التى يمزقهما الألم جراء التجديف المتواصل ودفع الماء القاسى للوراء، أعصابى كلها مفكوكة من هول الموقف وقسوة التجربة .. التجربة التى كادت أن تنهى حياتنى، أين بُجرة ملابسى، سوف أعود من حيث آتيت، سوف أوفى نذرى، سوف أهبط إلى الدير الذى سوف أقضى به بقية حياتـ ـ

لا أصدق، أنها تنادينى، هى التى تنادينى، ما أجمل طلتها، آه من عينيها الغجريتين الحارقتين، آه من فمها الذى يستحق أن تمضغه شفتاى، آه من صدرها المكشوف ونهدها المنتصب الرجراج، آه من ....

سوف أقضى معها لية لن أنساها ..

26‏/5‏/2009

العشاء الأخير / شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ:
هو ذا الشعاع الذى سقط من التاريخ على أرض الواقع فأنبت بها العقول المستنيرة..


لوحة العشاء الأخير (ليوناردو دافنشى) - الموجودة على جدران كنيسة (سانتا ماريا دي ليغرازي)



نزلت المائدة وكان التلاميذ يعلمون أنه آخر عشاء لهم بصحبة مخلصهم (يسوع) المسيح نبى (الناصرة) الذى أراد أن يخلصهم من جشع يهود ومن الظلام الذى خيم على القلوب والعقول جراء الوثنية.

جلس السيد المسيح عند رأس المائدة بينما كان التلاميذ الاثنا عشر يتنافسون على مقاعد الشرف القريبة منه ، فقام من مقعده وجاء بحوض به ماء وغسل أرجل التلاميذ وقال [ لقد حاولتم التنافس على مقعد الشرف ، والأن أضرب لكم المثل الذى يجب أن تحتذوه ، تذكروا أن الخادم ليس أعظم من سيده ولا الذى أُرسل بأعظم من الذى أرسله].

فهم التلاميذ قصد معلمهم وراحوا يتناولون العشاء فى صمت ، فقطع السيد المسيح صمتهم وقال [ الحق أقول لكم إن أحدكم سوف يسلمنى ] وقعت الكلمات على التلاميذ كوابل فزادت من صمتهم لحظات يتناظرون فيها إلى بعضهم ، فتهامس كل منهم فى رجفةٍ [ هل هو أنا يا معلم؟ ] فقال السيد المسيح [ إن الذى يضع يده فى الصفحة معى هو الذى سيسلمنى ، ولقد كان خيراً للذى يسلمنى أن لو كان لم يولد..].
أكلوا فى صمت ، ولم ينتبه أحد إلى أن (يهوذا الأسخريوطى) كان هو الذى وضع يده فى الصفحة.

كان الملأ من يهود قد اجتمعوا وعقدوا مجلس (السنهدرين - يعنى: المجلس التشريعى الأعلى لليهود) الذى دعا إليه الحاخام الأكبر (قيافا) ليروا كيف يستطيعون ايقاف (يسوع) الذى يدعى المسيح عن الوعظ وكيف يمنعوا عدد أتباعه من الأزدياد ، فقد اغتاظوا من جرأته لما جاء الهيكل وطرد منه التجار والصيارفة من قبل ، وما ميز غيظهم هذه المرة عندما جاء الى أورشليم ولم يكن وحده كان حوله أتباع كثيرون ينشدون ويرتلون فى الشوارع وقد انتابتهم نوبة قوية من الغضب الشديد فراحو يقلبون مناضد الصيارفة والتجار ويبعثرون نقودهم على الأرض ويخرجونهم من فناء الهيكل بضرب العصى.

خاف الملأ من أفعال أتباع المسيح ، وأن تدفعهم عواطفهم الثائرة ونزعتهم الوطنية إلى الثورة على السلطة الرومانية ، فتكون العاقبة هى القضاء على ما يتمتع به يهود وزعمائهم من حكم ذاتى وحرية فى جمع المال بإسم الدين ، فوافق المجلس بأغلبيته على رأى (قيافا) الذى قال [ خير لنا أن يموت إنسان واحد من الشعب ولا تهلك كل أمة يهود ].

انتهى التلاميذ من العشاء كما انتهى المجلس من قراره..
وها هو السيد المسيح بصحبة احدا عشر تلميذاً خرجوا من المدينة إلى حديقة (جشمانى) التى اعتاد السيد المسيح الخروج اليها للصلاة والتعبد.

وبينما رؤساء الكهنة يتشاورون فى الطريقة التى بها يقبضون على السيد المسيح دون إثارة للشغب ، إذ دخل عليهم (يهوذا) يساومهم [ ماذا تعطوننى وأنا أسلمه إليكم؟ ] ، جلست الخيانة على مائدة الكفر وبدأت المساومات..

شق السكون فى الحديقة بعدما انتصف الليل وصول (يهوذا) يتقدم جماعة من الضباط والجنود حاملين مشاعلهم وعصيهم ، تقدم السيد المسيح من نفسة اليهم يسألهم عمن يبحثون؟ ، قالوا [ نبحث عمن يسمى (يسوع) الناصرى ] ، فقال على الفور [ أنا هو ].

لم يكن السيد المسيح يكشف عن نفسه إلا وقد هرب التلاميذ وتخلوا عن معلمهم..
ولكن أين (يسوع) أهرب مع تلاميذه؟
دخل (يهوذا) بعنف على التلاميذ فى البيت الذى كانوا قد اجتمعوا فيه بعد الهرب وأخذ يفتش ويقول ، [ أين المعلم؟ ] ، قالوا له [ أنت المعلم أنسيتنا أم أنك تنكرنا؟ ]

ألقى الضباط القبض على (يهوذا) فى ثوب السيد المسيح وقيدوه وقادوه إلى بيت كبير كهنة اليهود وبعد ليلة طويلة من الإتهامات والإهانات جيئ به إلى قاعة المحاكمة أمام (بيلاطس النبطى) حاكم أورشليم الرومانى ، وحوكم محاكمة لم يشهدها التاريخ من قبل لكن ربما شاهدنا مثلها كثيراً بعدها.

وجد (يهوذا) فى ثوب (يسوع) نفسه متهماً بالأتى:
1. الكفر بالعقيدة الموسوية ، رغم أن السيد المسيح لم ينقد العقيدة الموسوية بل كان الكهنة هم من استخدموا قشورها وحوروها لمصالحهم المالية.
2. الخيانة وتدبير المؤامرات ضد أمن الدولة الرومانية.
3. تحريض الناس على الإمتناع عن دفع الجزية.
4. التمرد على السلطات.
5. إفساد الأمة.

وبعد المحاكمة الملفقة تهمها الظالمة أحكامها..
تم الحكم بإعدام (يسوع) الناصرى صلباً ، ولأن الله لا يقبل بالظلم أن يحل على عباده الصالحين فقد رفع نبيه إليه وألقى شبهه على (يهوذا) الخائن الذى أشترى ثمن تعذيبه وصلبه فى الدنيا وخزيه فى الآخرة بثلاثون قطعة من الفضة ، خاب وخسر..

بقلمى...
© All rights reserved

21‏/5‏/2009

عزازيل .. عبقرية يوسف زيدان / مقال

غلاف الكتاب - وصورة المؤلف


(عزازيل) تلك الرواية التى هى فى الأصل [ ترجمة أمينة لمجموعة اللفائف (الرقائق) التى اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية ، الواقعة إلى جهة الشمال الغربى من مدينة حلب ] ، والتى أشرف على اكتشافها الأبُ الجليلُ (وليم كازارى) ، والمكتوبة باللغة السُريانية القديمة (الآرامية) أو (الأسطرنجيلية) لأن الأناجيل القديمة كانت تكتب بها..


كتبها راهب مصرى الأصل اسمه (هيبا) فى النصف الأول من القرن الخامس الميلادى ، يحكى فيها سيرته العجيبة ويؤرخ عن غير قصد وقائع حياته القلقة وتقلبات زمانه المضطرب..

ترجمها (يوسف زيدان) من لغتها الأصلية إلى اللغة العربية وأعدها فى كتاب روائى أسماه (عزازيل) ، فصول الكتاب ثلاثين فصلاً هى عدد الرقوق المعثور عليها ، كما أنه بدأ الكتاب بفصل مقدمة المترجم ، وختمه ببعض الصور المرتبطة بأحداث الرواية..

عمل (زيدان) فى الرواية اقتصر على:
1. ترجمة الرقوق من لغتها الأصلية إلى اللغة العربية.
2. أعطى الرقوق عناوين من عنده.
3. استعمل الأسماء المعاصرة للمدن المذكورة فى الرقوق إلا فى بعض الأوضاع حسب ما رآه مناسباً.
4. وضع الشهور الميلادية التى تقابل الشهور القبطية التى ذكرها مؤلف النص فى رقوقه.
5. ألحق الترجمة ببعض الحواشى ، والتى كانت موجودة فى الأصل على أعلى أطراف الرقوق.

كتب الهوامش بلغة عربية راهب لم يصرح بإسمه فى حدود القرن الخامس الهجرى.
ويقول (زيدان) فى ذلك [ وقد أوردتُ فى هوامش ترجمتى، بعضاً من حواشيه وتعليقاته الخطيرة ولم أورد بعضها الآخر لخطورته البالغة، وكان آخر ما كتب الراهب المجهول على ظهر الرق الأخير: سوف أعيد دفن هذا الكنز فإن أوان ظهوره لم يأن بعد ].

لكنى تساءلت كثيراً لماذا تلك الضجة والإحتفاء وهذه الجوائر التى أصابها (عزازيل) وحصدها (زيدان) ، ولم يكن شأن (زيدان) فى الرواية أكثر من شأن أى مترجم.

لكن سرعان ما اكتشفت عبقرية (زيدان) الذى استطاع اقناع الجميع عندما يشرعون فى قراءة الرواية لأول مرة بأنها نص تاريخى قد ترجمه الى العربية عن كاتبه الأصلى (هيبا).

إلا أن (زيدان) فى الحقيقة هو الكاتب الأصلى، وأن (عزازيل) كلها من وحى خياله وأن (هيبا) ذلك الراهب لم يكن أكثر من بطلاً لروايته ، التى قدمها بمنتهى البراعة والحبكتة الأدبية ودعمها بالحقائق التاريخية وتحدث فيها عن اللاهوت المسيحى بإسلوب روائى أدبى حساس امتزجت فيه العاطفة بالمتعة بالرقى والروعة.

إذاً يستحق (زيدان) الجائزة العالمية للرواية العربية (جائزة بوكر العربية) عن جدارة وأكثر..

وفى رأيى أنه..
كاد (زيدان) أن يضيف إلى ما جناه (عزازيل) من جوائز، جائزة (نوبل) العالمية فى الآداب ، إلا أن الأديب السويدى (بار لاغركفيست)بروايته (باراباس) كان له السبق فى الحصول على (نوبل) عن نفس الفكرة وهى الإقناع بأن أبطال وأحداث العمل حقيقين ، كما أن فكرة رواية (عزازيل) نفسها تشابهت فى مضمونها مع رواية (هيباتيا-Hypatia) التى كتبها الكاتب الإنجليزى (تشارلز كينجسلى) التى نشرت عام 1853 وترجمت الى العربية فى الستينيات بقلم (عزت زكى).

لكن فى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول أن (عزازيل) من أعظم الأعمال التى قدمت فى الفترة الأخيرة ، كما انها تستحق أن توضع مع [ الأناجيل المحرمة والكتب الممنوعة ] كما وضعها (هيبا) الراهب من قبل..

بقلمى...
© All rights reserved

26‏/4‏/2009

اللحظات الأخيرة في حياة يوحنا

. 1 .

شذَّ حالُ «يوحنَّا» وتغيَّرت أطوارُه هذه الأيامَ، كان كلُّ ما يفكرُ فيه تلك الفترة الحلوة التي مضت، انصبَّ كلُّ شعوره في دُنُوَّ الأجل واقتراب النهاية. أصبح يتذوق طعم الفراق، ويشم رائحة النهاية، ويسمع دبيبَ الموت يدبُّ إلى قلبه، أصبح لا يرى إلا اللون الأسود.

بيدَ أنَّ سبب حاله هذه تقدُّمُ سِنَّهِ، فهو الآن يخطو نحو الستين من عمره، وجد الشبابَ قد فرَّ منه وأنَّ الشيخوخة قد لاحقته، رغم أنَّ من يعرفه جيدًا كان دائمًا يسمعه يقول:

- إنني لن أفارقَ الشبابَ يومًا، ولن أودَّع أحلامي البتة.

لكن ما زاد الحال سوءًا هو ذلك اليوم الذي استيقظ فيه من آلام الشقيقة، ونظر في المرآة التي تُطِلُ عليه من رُكنِ الدولاب، رأى شعره الأشيب، وتجاعيد وجهه، وخده الهضيم، وبشرته المغضنة، وعظامه البارزة، وأجفانه الوارمة، ثم نظر نظرةً قاسيةً إلى عينيه الحمراوتين اللتين تُطِلُّ منهما النظرات المرتاعة، تذكَّرَ أيامَ شبابه، وسالت الدموع من عينيه. شَعَرَ كأنه كهلٌ في الثمانين يخطو خطوته الأخيرةَ نحوَ النهاية.

. 2 .

لم يكن «يوحنَّا» يُحِبُّ الخروج قبل حلول الظلام، وكان موعد رجوعه عندما تخلو الشوارع من المارة تمامًا، رغم هذا وذاك كان يصحو من نومه قبل أن تطلع الشمس. تقلَّصت ساعاتُ نومه وأصبح لا ينام إلا سُوَيعَاتٍ يحلم فيها بالماضي وأيام الشباب. لكن في ذلك الصباح الشتائي انتصب من على سريره وقال:

- إنني لا يَجِبُ أن أنامَ، ولا يَجِبُ أن أضيَّع من الوقتِ القادمِ دقيقةً. دقيقةٌ واحدةٌ لا يَجِبُ أن تضيعَ.

وكعادته، بعدما ينتشر الضوءُ الخفيفُ في الأرجاءِ صنعَ كوبَ القهوة، وأخذ الجريدة، وألبوم الصور من على مكتبه، ونزل درجات السُّلم الخشبي لبيته العتيق ... البيت الذي يشبه كوخًا كبيرًا، والمنزوي في عُمق الحديقة المطمورة بالأغصان المتكسَّرة والأوراق الصفراء المتعفَّنة التي تخشخش على الأرض كلما مشى عليها أحد أو حرَّكتها الرياح ... وجلس تحت شجرة الصفصاف الجافَّة، يرشف من كوب القهوة، ويقرأ في الجريدة، ويُحدَّق في البعيد، وترك العنان لأفكاره.

تذكَّر حبيبته، وقال بصوت متهدَّج:

- أين أنتِ يا ...

لكنه لم يستطِع أن يُكمِل.

قامَ وأخذَ يجوبُ الحديقةَ، وكان كلبه الشيخ أيضًا يتبعه، لكنه دومًا كان ينهر الكلب.

شَعَرَ أنه بحاجة إلى امرأة، لكنه شَعَرَ بأمرٍ غريب. فكَّر في أن يتزوج، لكنه ضحك من نفسه. عاد إلى نفس مكانه تحت الشجرة، نَهَرَ الكلبَ، وأمسك الصور وظلَّ يُقلَّبها، وقال:

- كم مدنًا زُرْتُ، وكم قبابًا رأيتُ، وبيوتًا، وفنادقَ، وحاناتٍ، ومقاهي.

لكن «يوحنَّا» لم يَرُد.

تذكَّر تلك الأيام الماضية، وتلك الوجوه التي مرَّت به، وسكب ما بقيَ من كوب القهوة على أرض الحديقة. نَهَرَ الكلب، وصعد السلالم الخشبية.

. 3 .

إلى البيانو العتيق ...

حاول «يوحنَّا» أن يعزف تلك المقطوعة التي كان يسمعها من حبيبته دائمًا، لكنه لم يستطع أن يُكملها. أمسك زجاجة البراندي وتجرَّعها كُلها. اقترب من القفص الفضَّيَّ الذي يعيش فيه طائر البلبل الأبيض، وحيدًا، منذ أن أتى به إلى جواره، وضع له الحبوب والماء، وظل واقفًا أمامه منتظرًا أن يشدو، لكنه لم يَشدُ.

ذهبَ إلى خزانته ...

تطلَّع إلى الأوراق القديمة المكتوبة بدم حبيبته، وأمسك زجاجة العطر التي كانت تستخدمها وسكبَ منها على يده ومسحَ وجهه.

ذهبَ إلى الشرفة الخلفية ...

فتح ذراعيه للهواء ... رأى حبيبته عند أول مرَّة رأى فيها عينيها النجلاوتين، وأول مرَّة لمس أصابع يدها البيضاء الناعمة، ورآها عندما كسرت جرَّة الحليب من شدة ارتباكها ... انتعش لَمَّا لفحته نسمات الهواء الباردة، تلك المُحَمَّلَة بعبير الزهور الجافة ورائحة حبيبته وعطرها العتيق.

فكَّر في أن يذهب إلى المقابر ويبث إلى حبيبته شكواه، لكنه لم يفعل.

. 4 .

فكَّر «يوحنَّا» في الخروج رغم أنه لم يكن ذلك موعد خروجه. غادر البيت، وغادر الحديقة دون أن يقفل الباب الحديدي الذي علاه الصدأ. لم يكن يفكَّر في الحرص وقتها.

مضى في الشوارع غير عابئ بالذين يحدَّقون فيه. وصل إلى الشاطئ، ولفحه الهواء البارد. رفع يده إلى ياقته اللزجة، وشعر بالعرق تحت إبطيه. رأى العُشَّاق، وباعة الورد، وباعة الترمس. ووقف عند حافَّة مياه الشاطئ، وقال:

- لو أنني ألقيت بنفسي في ذلك الماء الساكن، ولو أنني ذهبتُ إلى البلاد التي تكون فيها الشلالات هائجة وعنيفة، ولو أنني ...

حاول أن يتذكَّر أبياتًا من الشَّعر، وحاول أن يترنَّم بذلك المزمور الذي كان يردَّده دائمًا، لكنه لم يستطع.

ذهب إلى المقهى ...

لم يرد التحية على من ألقاها عليه، وجلس على ذلك الكرسي البعيد، وانزوى، واندسَّ، وثنى رقبته، وقال:

- لو أنني جلستُ على ظهر الكرسيَّ.

تذكَّر الأفيال، وتذكر المقابر، ورأى فُوَّهة البندقية مُصوَّبةً نحوَه.

قال للجرسون:

- زجاجة براندي وثلاث كؤوس من الويسكي.

قال الجرسون:

- هنا مقهى.

قال للجرسون:

- هنا بار.

قال الجرسون:

- رائحة الخمر تفوح منك يا يوحنَّا.

قال «يوحنَّا»:

- أنا أحسن عدَّاء، كما أستطيع أن أرمي ستين طلقة في الدقيقة وأنت لا تسمع.

قال الجرسون:

- لقد فقدت عقلك يا يوحنَّا.

ضحك «يوحنَّا» بصوت مرتفع، وطلب عربة تقف أمام درجات البهو. ترقرقت عيناه بالدموع وهو يدخل العربة، وقال:

- إلى الهيلتون.

جلس على طاولة كبيرة، وطلب عشاء كاملا لفردين، ترك العشاء، وسأل عن موعد لعب القمار، دفع ثمن العشاء، ونفح الجارسون خمسين جنيهًا، وأعطى الفتاة خمسة وعشرين قرشًا.

ذهب إلى السوق ...

اشترى جرائد اليوم. والجرائد المسائية. ومجلات الأسبوع. وخمسة كتب من الطبعات الفاخرة. وأربع اسطوانات بها موسيقى من اليونان، وأغاني من تركيا، وسيمفونيات موتسارت، وألحان بتهوفن. وصورة مُصارع ثيران أسباني. كما ملأ كيسًا ورقيًّا بالبقالة، وآخر ملأه بالفاكهة.

لم يفكَّر في أنه تجاوز المبلغ المخصص لهذا اليوم. تذكَّر أنه نسيَ أن يطفئ النار على البيض الذي كان يسلقه للإفطار. شعر بالحنق، وشعر بانفطار في قلبه. فكَّر في العودة إلى بيته، وفكَّر في أن يتخلَّص من مُشترياته، تركها في العربة ونزل عندما رأى بيته على مد بصره، مشى حتى وصل إلى الباب الحديدي، ونظر إلى الحديقة الجافة المتعفَّنة، وتذكَّرها أيامَ كانت خضراء مثمرة، شعر بدوار وسقط على الأرض مغشيًا عليه.

. 5 .

وجد «يوحنَّا» نفسه ممددًا على سريره، يحيطه ثلاثةُ رجال وامرأة.

قال له الضابط:

- كم ضيَّعت في العربة ؟

وقال له الطبيب:

- كم كأسًا شربت ؟

وقالت الممرضة:

- ألم يحذرك الطبيب من الشرب ؟

كان الرجل الثالث ثلاثينيًّا متأنقًا، ولم يتكلم.

قال «يوحنَّا»:

- لم أضع طعامًا لعصفوري اليوم.

خرج الجميع، وقال «يوحنَّا» للغريب:

- انتظر ... من أنت ؟

- أنا من نقلك للسرير وطلب لك الطبيب سيدي.

قال «يوحنَّا»:

- اسمع، أشعر بأن اللحظات القادمة هي اللحظات الأخيرة من حياتي، نعم، فقد مرَّت أمام عيني حياتي كلها، واستطعمتُ حُلوها ومُرَّها، لكن حقًّا أقول لك، إني ما ذُقتُ مُرَّ الحياة إلا بعدما رحلت عني زوجتي واستقبلَتها أمجادُ السماء، كانت حبيبتي التي لم أحب غيرها، وها أنا الآن أُحتَضَرُ ولعلَّي ألحَقُ بها بعد قليل، لكني أخشى الموت وحيدًا كما عشتُ عِقدي الأخير في الحياة وحيدًا، هل رافقتني تلك اللحظات بُنَيَّ ؟

- بالطبع سيدي.

أكمَلَ «يوحنَّا» كلامَه، قائلا:

- في تلك الفترة التي عشتُ فيها هنا، وحيدًا، في ذلك البيت البعيد عن المدينة، لم يرافقني أحد، إلا الكلب العجوز ذاك القابع في كُشكه الخشبِي أمام الباب الحديدي وعصفوري هذا الموجود في قفصه الفضيَّ المُعلق فوق البيانو الموجود بجوار الشرفة الخلفية، كانوا أُنسي أيام وحدتي، لم يتركوني يومًا وها أنا الآن سأرحل وأتركهم، لكني لا أريد أن أجعلهم يشعروا بالوحدة يومًا بعدي، لأن الوحدة هي الموت، نعم هي الموت. أطلب منك بُنَيَّ أن تفتح لهم الأبواب وتترك كلاًّ منهم يذهب ليبحث عن أنيس له.

ذهب الغريب يمتثل لأمر «يوحنَّا»، وذهب «يوحنَّا» يغتسل ويلبس الثياب البيضاء، الباردة، النظيفة، التي سوف يذهب بها إلى معبوده.

عاد «يوحنَّا» إلى السرير، وعاد الغريب إلى «يوحنَّا».

- سيدي، ذهب الطائر واختفى عن بصري لَمَّا فتحتُ له باب القفص، لكني حاولت كثيرًا أن أخرج الكلب من الباب الحديدي فأبى الخروج، وها هو يقف عند باب الغرفة من الخارج وكأنه يستأذنك الدخول. سيدي، هذا الكلب قد شاخ وتبدو عليه علامات الاحتضار، ويبدو أنه يتمنى أن يبقى إلى جوارك، هل يمكنني أن أفتح له باب الغرفة وأسمح له بالدخول ؟

قال «يوحنَّا» بصوتٍ مبحوحٍ:

- افتح.

دخل الكلب وجلس تحت قدمَيْ سيده، يرتجف، ويهز ذيله في صمت.

قال «يوحنَّا»:

- عجيب حال هذه الدنيا، ذاك الطائر من نوع نادر، اشتريته بجزء من ثروتي، دللته، وصنعت له قفصًا من الفضة، وها هو عند أول فرصة سنحت له بالبعد عني ابتَعَدَ. أما هذا الكلب فكان ضالا، مُشرَّدًا، أول مرة قابلته فيها عاداني، لكني استأنسته، وصنعتُ له كُشكًا خشبيًّا، ولم أفعل إلا أن كنتُ أضع له الطعام من وقت لآخر، ورغم أني كنت أنهره دائمًا إلا أنه كان يحتملني، وعندما شعر بنهاية حياتي فَضَّلَ أن تكون نهايته أيضًا، وكأنه أبى الحياة إلا في جواري، بيدَ أن هناك مفاهيم كثيرة في حياتي كان لا بد من تغييرها، لكن لا مجال للتغيير الآن فإن أوان النهاية قد آن.

تنهَّد «يوحنَّا»، وتنفَّس عميقًا، وقال:

- لقد بقيت طيلة حياتي أنفر من القساوسة والكهنة، وليس بوسعي الآن استدعاء أحدٍ منهم للاعتراف أمامه، بيد أني أبغي تطهير ضميري قبل أن أفارق الحياة.

سأل الغريبُ «يوحنَّا»:

- وما العمل إذًا ؟

قال «يوحنَّا»:

- لقد طلبتُ منك مرافقتي في تلك اللحظات الأخيرة من حياتي، ألا استمعت لي في تلك الكلمات الأخيرة أيضًا ؟

قال الغريب بصوت هادئ:

- حسنًا، رغم أني لستُ قسًّا ولا كاهنًا، إلا أن ذلك لا يعني شيئًا، تكلَّم سيدي، ربما أستطيع أن أيسَّر اللحظات الأخيرة من حياتك وأن أخفَّف من أعباء روحك.

. 6 .

قال «يوحنَّا»:

- لقد بقيتُ طيلةَ حياتي محافظًا على صفحات كتابي بيضاء، ولم أدنسها بالخطيئة يومًا، لكن لَمَّا اشتد على زوجتي مرضها الأخير، ووصف لها الطبيب علاجات وأدوية مختلفة باهظة الثمن، في الوقت الذي كنت قد فقدتُ فيه ثروتي كلها، أو لعلي بددتها، في هذه الفترة كنتُ لا أعرف كيف أوفَّر لها قُوتَ اليوم التالي. أقدمتُ إلى قصر الأميرة ابنة الملك الراحل، الذي كنت أعمل مديرًا لأعماله فترة من عمري، كنت أعرف كل خبايا القصر، فقد عشتُ فيه أيامًا وافتتنتُ بخزائنه يومًا. قَدِمتُ إلى القصر وسرقتُ منه قطعة ذهبية من أحد أطقم الأميرة، بعتها، واشتريتُ بثمنها الدواء والغذاء اللازمين لزوجتي.

قال الغريب:

- وهل طالَ السوءُ أحدَ خدمِ الأميرة بسبب فِعلتك ؟

أجاب «يوحنَّا» وقد تفجَّرت الدموعُ من عينيه:

- كلا، أقسمُ لك، ولو أنني أدركتُ يومها أن الذهبَ لن يعالج زوجتي لما تجاسرتُ على فعلتي تلك.

تراخت أجفان «يوحنَّا» كما تراخي كل جسده ولم يستطع فتحَ عينيه. وضع الغريب راحة يده على عينَي «يوحنَّا» المُطبَقَتَين المشتعلتين من البكاء، فأحسَّ «يوحنَّا» براحةٍ تسري في كل أنحاء جسدِه، قال الغريب بصوت هادئ:

- هكذا إذًا سيدي، فأنت بريءٌ من الخطيئة وغيرُ مذنب بحق الناس، وما قمتَ به ليس بخطيئة ولا يُعدُّ سرقةً، بل يجوز القول بأنك اجترحتَ مأثرة حب نادرة.

غمغم «يوحنَّا»:

- آمين.

وردَّد الغريب:

- آمين.

ثم قال الغريب بصوت أكثر هدوءًا:

- والآن أفصح لي عن رغبتك الأخيرة.

ابتسم «يوحنَّا» وردَّد بصوت مرتفع:

- أرغبُ في رؤية زوجتي ثانيةً كما رأيتُها أول مرَّة في ريعان شبابها، وأن أرى الشمس، وهذه الحديقة العتيقة وهي تزهر في الربيع.

ثم ابتسم في أسى وقال:

- بيدَ أن كلَّ هذا مستحيل، لا تؤاخذني، فالمرض ومعالجة الاحتضار على ما يبدو أفقداني صوابي.

قال الغريب وهو ينهضُ من مقعده:

- حسنًا، حسنًا.

واقترب من البيانو ومرَّر أصابعه على مفاتيحه المصنوعة من أخشاب الأبانوس فتصاعدت عدة نغمات متهدَّجة، عجوزة، مختلفة. وفجأة تدفَّقت موسيقى متسارعة غمرت الكوخ، وكأنَّ مئات الكُرات البلوريَّة تساقطت على أرض زجاجية. كاد «يوحنَّا» أن يهمَّ بالكلام، لكن الغريب بادره قائلا:

- أصغِ ... أصغِ وانتظر.

وطفق في العزف على البيانو.

صدح البيانو لأول مرَّة منذ سنوات بكل نغماته التي عمَّت كل شيء في الكوخ والحديقة والسماء التي علت المكان، وانسلَّ الكلب العجوز وأقعَى جانبًا تحت البيانو وراح يهز ذيله بهدوء يشوبه الحذر، واكتفى بتحريك أذنيه. أما «يوحنَّا» فقد قام من سريره قليلا وما زالت عيناه مُطبَقَتَين، وقال:

- لقد بدأت أرى كل شيء بوضوح الآن، هو ذا اليوم الذي التقيت فيه بزوجتي أول مرَّة، كان ذلك إبان الشتاء في أحد الجبال القريبة من هنا، لما كانت السماء صافية كزجاج أزرق، والشمس ساطعة، والثلج الخفيف يتساقط كحبات الندى على أشجار الحديقة وأزهارها البيضاء والحمراء وعلى النجيل الأخضر. يومها قطفت لي تفاحة وعنقود عنب، وراحت تضحك. إنني أسمع ضحكاتِها الآن.

وصل «يوحنَّا» إلى النافذة وفتحها كأنما يقدَّم ضوء الشمس الدافئ بأشعَّته الذهبية إلى الغرفة. فأرسل الغريبُ نظرَه إلى النافذة المظلمة وتساءل وهو يستمر في العزف مبتسمًا:

- أحقًّا أنك ترى كل هذا ! كيف تحولت ظلمةُ الليل إلى سماء صافية وسماوية ! وكيف تحوَّل البردُ القارسُ في الغرفة إلى مكان انسكب فيه الضوء الدافئ والأشعَّة الذهبية ! وكيف تفتَّحت على أغصان أشجاركم الجافة زهور بيضاء وحمراء، وكيف أثمرت الأشجار الميتة وأنجبت التفاح والعنب !

صاحَ «يوحنَّا»:

- إنني أرى كل ذلك وأكثر ... ما زالت السماء تزداد زُرقةً، والمكان يزداد دفئًا، وأسراب الطيور تُهاجر فوق مديتنا الجميلة، إنني أرى كلَّ شيء جميلاً مُبهجًا.

دامت تلك الاحتفالية التي لم يكن باعثها ذلك البيانو وحده، بل مئات الأصوات المبتهجة التي ظلَّت تُنشِدُ معًا. وفجأة أفلتت دوَّاسة البيانو العجوز وأصدرت صريرًا ناعمًا عاليًا، فسقط «يوحنَّا» على الأرض مُستنشقًا الهواء بنهم، وراح يعبثُ بشكل عشوائي متشبثًا باللحاف لكي يصعد إلى السرير، فهرع إليه الغريب وأصعده على السرير، فسأله يوحنَّا بصوت متحشرج:

- مَن أنت ؟ مَن ذلك الشخص الذي أراني كلَّ شيء بوضوح كما تمنَّيتُ أن أرى ؟ مَن ذلك الشخص الذي جعل أشجار التفاح تُزهِرُ وتُثمِرُ في غُضون ليلة واحدة؟

ابتسم الغريب، وقال:

- إنسان.

ابتسم «يوحنَّا» وفارقَ الحياةَ.

استوحشَ الكوخ وخلا من كل مظاهر الحياة مرَّة أخرى، إلا من ذلك الضَّوء الخفيف -الحقيقي تلك المرَّة- ضوء القمر الفضيّ الذي أطلَّ على الحديقة والكوخ كما أطلَّ على وجه «يوحنَّا».

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعض الجُمل في هذه القصة مقتبسة من قصة للكاتب الفنان: عبده جبير.